• الموقع الرسمي للشيخ د. محمد ضاوي العصيمي
  • مارس 20, 2025

وقفة مع أحداث مصر

المزيد

الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد:

لا يخفى على أحد أن ما يجريه الله في ملكه وخلقه إنما أجراه جل وعلا لحكم عظيمة ومصالح جليلة علمها من علمها وجهلها من جهلها, ومن أفعال الله تعالى المصحوبة بالحكمة ما يجريه الله جل وعلا من الفتن والابتلاءات والمصائب المدلهمات, والأحداث العظيمات.

قال تعالى مبيناً الحكمة من وجود الفتن {وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء:35], وقال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الكهف:8], وبين سبحانه أن من حكمته في وقوع الفتنة بيان إظهار مدى صبر الناس وتحملهم من جزعهم وتخطهم قال تعالى {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ} [الفرقان:20].

وقد فسرت هذه الآية بأن فتنة الناس لبعضهم البعض تكمن في ما يحصل بينهم من التعدي والاقتتال وسفك الدماء, هذا الأمر الذي منع الله منه إجابة نبيه ﷺ لما سأله الثلاث مسائل فأعطاه اثنتين ومنعه واحدة, قال ﷺ سَأَلْتُ رَبِّي ثَلاَثًا فَأَعْطَانِي اثْنَتينِ وَمَنَعَنِي وَاحِدَةً« رواه مسلم. والتي منعها سؤاله  «وسألته أن لا يجعل بأسَهم بينهم، فَمَنَعَنِيها» أخرجه مسلم

وفُسر قوله تعالى (وجعلنا بعضكم لبعض فتنة….) أن الله تعالى جعل الغنى فتنة للفقير, وجعل الصحيح فتنة للمريض, وجعل الرئيس فتنة للمرؤوس, والظالم فتنة للمظلوم, لينظر تعالى في صبرهم ويبتلى تحملهم, ولهذا عقبه بقوله (أتصبرون).

ومما يجب أن يعلم كذلك أنه ليس أحد في منأى عن الوقوع في الفتنة ونيله من شررها, ومن ظن ذلك فهو واهم قال تعالى {الم* أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ* وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:1-3]. 

فهذه الآية تضمنت أن الإيمان له ضريبة وثمن, فلم يكن يوماً من الأيام كلمة يتفوه بها, أو دعوى ليس عليها بينه, كلا بل الإيمان يلزم منه لوازم ويترتب عليه واجبات تتمثل في الصبر والأمانة والثبات وبذل الأسباب المنجية من الفتن.

*وقفة مع الأحداث:

أمام ما يجري في هذه الأيام الأخيرة من أحداث متسارعة, ومواقف متتابعة, يقف المرء حائراً في أي شيء يتكلم, وعن أي موضوع يكتب, لكنه الحق الذي يجب أن يبين, والدين الذي ينبغي أن يوضح وحتى لا نكون كما قيل:

يقضي على المرء في أيام محنته*** حتى يرى حسناً ما ليس بالحسن.

إن مما يصدق علينا في الأيام الأخيرة ما أخبر به ﷺ من وصفه للفتنة إذا وقعت بأنها تجعل الحليم حيراناً, حتى إن العاقل اللبيب ليختلط عليه الأمر فلا يدري في أي الموقفين يكون الحق, ومع أيهما يجب أن يدافع وينافح, هذا إن كان له دين وإيمان وتجرد للحق وطلب له.

ومن الأمثلة التي سطرها التاريخ ما جاء ما حدث بين الصحابة رضي الله عنهم في معركة الجمل حينما اصطف الجيشان نادي عليٌ الزبير بن العوام فلما رآه على قال: يا زبير نشدتك الله ألم يقل رسول الله ﷺ لك إنك تقاتل عليا وأنت ظالم له؟ قال الزبير: اللهم نعم ما ذكرته إلا الساعة, ووالله لا أقاتلك, ثم انصرف رضي الله عنه, فتأملوا مقام الخائف من رب العالمين لما تبين له الحق وتذكر ما كان قد نسيه رجع واستغفر.

والصنف الآخر هو ذلك المتبع لهواه, الساعي لحظ نفسه ممن لا يبالي لو هلك الناس جميعا في سبيل دنيا, أو إبقاء لمصلحة نفسه فهذا مآله إلى إهلاك نفسه وإتلاف غيره, قال بعض السلف: احذروا من الناس صنفين صاحب هوى قد فتنه هواه, وصاحب دنيا قد أعمته دنياه.

وإليكم أيها الكرام جملة من التوجيهات الشرعية التي أرى نفسي حقيقاً بها قبل غيري, أذكرها حتى لا تزل قدم بعد ثبوتها فنستحسن ما استقبحه الشرع وتستقبح ما استحسنه الشرع:

1- أول هذه التوجيهات ضرورة الرجوع إلى الله تعالى أن يقي المسلمين شر الفتن, وأن يرفع عنهم الغمة, ويدفع عنهم النقمة, فمن سأل الله أعطاه ومن توكل عليه كفاه, ومن أعظم ما يدعي الله به أن يعيذنا من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن.

2- ثاني التوجيهات في خضم هذه الأحداث ضرورة الاشتغال بما يدفع الله عن الأمة بسببه الفتن, وأعظم ذلك الاشتغال بالعبادة, فقد تضافرت الأدلة الدالة على أن الاشتغال بالعبادة وبقيام الليل خصوصاً من أعظم أسباب النجاة قال ﷺ: «بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ» رواه مسلم أي اجتهدوا بالأعمال الصالحة قبل أن تحل عليكم الفتن فتعجزون عن أداء ما كنتم تؤدون من العبادة زمن الرخاء والسعة, وقال ﷺ «الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَىَّ» رواه مسلم.

والمراد بالهرج: أي في زمن الاقتتال بين المسلمين, فمن أعظم ما يشغل المسلم وقته فيه الاشتغال بالعبادة بدل الاشتغال بالقيل والقال.

3- ثالث التوجيهات ضرورة الحذر من كيد الكافرين ومكر المنافقين الذين يتربصون بالأمة الدوائر, من أولئك الذين يحرصون على تمزيق وحدتها وتفتيت قوتها, عبر التفرد بها واحدة تلو الأخرى, فبالله عليكم من نصدق, نصدق من يبشرنا بالبشارات, ويمنينا بالأمنيات من الكفار ممن يعدوننا بالحرية, وبرغد العيش, وبالديمقراطية المزعومة, نصدقهم أم نصدق كلام ربنا القائل: {هَا أَنتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ…..} [آل عمران:119] والقائل:{وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَاء…} [النساء:89].

ثم هل سألنا أنفسنا لو َصَدَق هؤلاء الكفار في وعودهم الزائفة هل ترونهم سيقدمونها لنا بدون مقابل ولا تنازل عن شيء من أمور ديننا؟ فنقع حينئذ في المداهنة المحرمة كما قال تعالى: (ودوا لو تدهن فيدهنون) فهؤلاء لا يصدقون ولو حلفوا الأيمان المغلطة وأعطوا الوعود المؤكدة يصدق فيهم قوله تعالى (فلا تطع كل حَلاَّفٍ مهين).

4- رابع التوجيهات: إن من أعظم قواعد الشريعة التي جاءت بها قاعدة المصالح والمفاسد ويقصد بها: أن الشريعة إنما جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها ودرء المفاسد وتقليلها, ولا يعرف هذه القاعدة وتطبيقها إلا من رزقه الله علماً غزيزاً ونظراً ثاقباً مصحوباً بالخبرة والحكمة المستندة قبل هذا وذاك على المنبع الصافي والأصل الأصيل كتاب الله وسنة رسوله ﷺ.

5- خامس التوجيهات: إن العاقل اللبيب هو الذي ينظر في مآلات الأمور ويفتش في عواقبها, وليس العاقل الذي يستعجل الثمرة وينظر تحت قدمه فقط دون اعتبار لما ستؤول إليه الأمور في المستقبل.

نسأل الله أن يحقن دماء المسلمين وأن ينجيهم من الفتن.

((والحمد لله رب العالمين))

كتبها

د. محمد ضاوي العصيمي


224
محمد ضاوي العصيمي

النشرة الإخبارية

التصنيفات