الحمد لله الذي عظّم قدر أهل الإخلاص وأعلى شأنهم في الدنيا والآخرة، والصلاة والسلام على من رزقه الإخلاص الكامل في أقواله وأفعاله صلى الله عليه وسلم أما بعد:
فإنه لا يخفى على أحد ما للإخلاص من قدر عظيم عند الله وجل وعلا، فيكفي الإخلاص قدراً ومكانة وشرفاً ومنزلة أنه شرط لقبول عمل العامل، فما لم يكن العبد لله عز وجل مخلصًا لم ينفعه عمل ولو سجد الليل والنهار، أنفق الدرهم والدينار.
– إن الإخلاص هو حقيقة الدين، ولُبُّه وقلبه قال بعضهم: (الإخلاص سرٌ بين الله وبين العبد لا يعلمه ملك فيكتبه، ولا شيطان فيفسده، ولا هوى فيميله.
علم الصالحون قدره ومكانته فبذلوا في تحصيله جهدهم، وأفنوا فيه عُمرهم، لم يكن تحصيله بالأمر الهين، ولا الوصول إليه سهل المنال؛ بل كان وما زال من أشق الأمور على أنفسهم وهو كذلك، قال يوسف بن الحسين: أعز شيء في الدنيا الإخلاص، وكم اجتهد في إسقاط الرياء عن قلبي فكان يَنْبُتُ على لَوْنٍ آخر.
وقال الثوري: ما وجدت شيئا أشد علي من نيتي أنها تتقلب عليَّ ولسنا والله بخير من حال رسولنا ﷺ وهو سيد المخلصين وإمام المتقين وقدرة الورعين، كان يدعوا ربه بقوله: «يا مُقلِّب القُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي على دينك» . أخرجه الترمذي.، «يَا مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى طَاعَتِكَ» ابن عساكر.
إن الكلام عن الإخلاص هو الكلام عن الدين، وإشغال الإنسان عّمُره كله في تعلمه وتعليمه وتحصيله من أعظم من شغلت به الأوقات، وفنيت فيه الأعمار، ولهذا كان السلف يهتمون بذلك أشد الاهتمام قال ابن أبي جمرة رحمه الله : وددت أنه لو كان من الفقهاء من ليس شغل إلا أن يُعلم الناس مقاصدهم في أعمالهم ويقعد للتدريس في أعمال النيات ليس إلا، فإنه ما أتى الناس إلا من هذا الباب وصدق رحمه الله.
وإن المتأمل لأحوال الناس بل وربما بعض الصالحين منهم يعلم أنه قد أوتوا من حيث لا يشعرون، ودخل إلى قلوبهم الرياء من حيث لا يتوقعون، وهنا مكمن الداء وموطن البلاء، من منا اليوم لا يفرح بمدح مادح؟ مَنْ منا مَنْ لا يحزن إذا لم يسمع ثناءً بعد انقضاء عمل صالح؟ أو عبادة من العبادات؟
مَنْ منا لا يجزع ويضجر عند نصح الناصح وتذكير المذكر؟ وكأنه قد كمل في عبادته وطاعته ومعاملته وخلقه!! ابتلينا بالعجب والكبر ورد الحق، والتشبع بما لم نعط.
أليست هذه أسبابٌ تستدعي الوقوف مع هذا الموضوع المهم والأمر الخطير؟ بلى والله
* الوسائل العشرة لتحقيق الاخلاص:
هذه عشرة أسباب معينه بإذن الله تعالى على تحصيل الإخلاص أذكر نفسي وأخواني بها علها أن تكون لنا بإذن الله تعالى عوناً على أن نوطن أنفسنا على الإخلاص وتجنبنا ما يضاده من الرياء والفخر والعجب والكبر، لأنه ما لم يحبس المرء نفسه على شهواتها أوردته الموارد.
بيت وصدق القائل:
( إذا المرءُ أعطى نفسه كل ما اشتهت *** ولم ينهها تاقت إلى كل باطل )
وأي باطل أعظم من الرياء والتشريك مع الله جل وعلا في العبادة والعمل الصالح والله يقول: «أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ مَنْ عَمِلَ عَمَلاً أَشْرَكَ فِيهِ مَعِى غَيْرِى تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ » رواه مسلم.
أما الأسباب المعينة على تحصيل الإخلاص:
1- أولا: معرفة ثمار الإخلاص وفضله وقدره عند الله تعالى قال الله جلا وعلا آمراً بالإخلاص {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} [الزمر:2]، وهو أساس ومفتاح دعوة الرسل عليهم الصلاة والسلام {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة:5].
– وفي الإخلاص النجاة من الفتن والسلامة من الشرور فها هو نبي الله يوسف الذي تعرض لأعظم فتنة تتحرك معها الجبال الصلبة حينما أغرته امرأة العزيز ونسوة مصر بما معهن من جاه ومال، ومنصب وجمال، كي يقع في الفاحشة ويقع في الزنا وهو شاب عزب تجري في دمه وروحه صبوة الشباب وشهوة الرجال، ومع هذا كله عُصم ونجى والسبب هو الإخلاص {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف:24].
– ومن ثمرات الإخلاص الجزاء الأوفى في الآخرة والمقام الأعلى {إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [الصافات:39-42].
2- ومن الأسباب المعينة على الإخلاص، دعاء الله تعالى والاستعانة به جل وعلا، فمن اعتمد على علمه ضل، ومن وُكل إلى ذكائه زل، فها هو النبي ﷺ كان يدعوا بقوله «يا مُقلِّب القُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي على دينك» . أخرجه الترمذي.، «يَا مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى طَاعَتِكَ» ابن عساكر.
وكان من الدعاء الذي علمه أصحابه وأمته من بعده حينما قال: «أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا هَذَا الشِّرْكَ، فَإِنَّهُ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ، فَقَالَ لَهُ، مَنْ شَاءَ اللهُ أَنْ يَقُولَ: وَكَيْفَ نَتَّقِيهِ وَهُوَ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: قُولُوا اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ أَنْ نُشْرِكَ بِكَ شَيْئًا نَعْلَمُهُ، وَنَسْتَغْفِرُكَ لِمَا لاَ نَعْلَمه». رواه أحمد.
3- من الأسباب المعينة: تأمل النصوص المحذرة والمرعبة من ترك الإخلاص والعواقب السيئة في الدنيا والآخرة، ففي الدنيا، لن يذهب المرئي بعيداً، فهو سيبتلى حتماً بالفضيحة في الدنيا بتبدل الحال وانتكاس المآل «من راءى، راءى الله بِهِ؛ وَمن سمّع، سمّع الله بِهِ» مُتَّفق عَلَيْهِ.
قال الحسن: ما أسر عبدٌ سريرة ( أي خبيئة سوء) إلا أظهرها الله على فلتات لسانه وصفحات وجهه.
وقد يبتلى بسوء الخاتمة عند موته عياذًا بالله تعالى قال ﷺ : «وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلاَّ ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُ النَّارَ» رواه البخاري.
وقد ذكر أكثر أهل العلم أن هذا الرجل المراد في هذا الحديث هو (المرائي) الذي أهمل الإخلاص ولم يكترث بالرياء حتى كانت النتيجة هي سوء الخاتمة نسأل الله العافية.
– وأما عقوبة المرائي في الآخرة فهو الوعيد الشديد والعذاب الأكيد فالمرائي حطب جهنم، ووقود النار، قال الله تعالى {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا} [الفرقان:23] وجاء في قصة من تسعر بهم نار جهنم أنهم قوم اختلفت عباداتهم وأعمالهم لكن اتفقت مقاصدهم فالأول مجاهد والثاني منفق والثالث قارئ للقرآن لكن كل هؤلاء كان عملهم لأجل الخلق لا لأجل الله فاستحقوا أن يكونوا حطب جهنم .
4- ومن الأسباب المعينة على الإخلاص معرفته وتعلمه والحذر من ضده الذي هو الرياء، فالناظر والمتأمل يجد أن كثيراً من الناس جهلوا الرياء حتى انغمسوا فيه، ووقعوا في شراكه وغوائله دون أن يشعروا، ولهذا كان للسلف رضوان الله عليهم معاني وموازين حددوا فيها متى يكون المرء مخلصا ومتى لا يكون كذلك، قال على رضي الله عنه: الإخلاص أن يستوي سرك وعلانيتك.
وقال: للمرائي ثلاث علامات:
(أ) يكسل إذا كان وحده (إذا خلى وحده لم يحرص على أداء الصلاة إلا على وجه متعجل لا يذكر الله فيها إلا قليلاً) (لا يؤدي نافلة ولا راتبة) (دائم التقصير) (تثاقل عن الطاعة).
(ب) وينشط إذا كان في الناس إذا كان في الملأ تأنى في الصلاة، وأتى بها على وجه كامل لا نقص فيه إذا كان في الملأ بكى وتأثر وارتفع نحيبه، وإذا خلى مع الله لم يجري دمع عينه سنوات عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال خرج علينا النبي ﷺ ونحن نتذاكر المسيح الدجال فقال ما المسيح الدجال أخشى عليكم ولكن أخشى عليكم الشرك الخفي أن يقوم الرجل فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل.
(ج) ومن العلامات أنه يزيد في العمل إذا أثنى عليه، وينقص إذا ذم، فكان بهذا إنما يعمل للناس ولا يعمل لله تعالى وهنا مكمن الخطر.
5- ومن الأسباب عدم الحرص على مدح الناس والسرور بثنائهم حتى أصبحت عند الكثيرين هي أكبر الهم ومبلغ العلم، وحتى نعرف خطورة الأمر تأملوا ما قاله الغزالي رحمه الله وهو يذكر خفاء الرياء، وكيف أنه ابتلى به بعض الصالحين دون أن ينتبهوا لذلك قال :وأخفى من ذلك أن يختفي العامل بطاعته بحيث لا يريد الاطلاع، ولا يُسر بظهور طاعته.
ولكنه مع ذلك إذا رأى الناس أحبَّ أن يبدؤوه بالسلام، وأن يقابلوه بالبشاشة والتوقير، وأن يثنوا عليه، وأن ينشطوا في قضاء حوائجه، وأن يسامحوه في البيع والشراء وأن يوسعوا له في المكان، فإن قصر فيه مقصر، ثقل ذلك على قلبه ووجد لذلك استبعاداً في نفسه، كأنه يتقاضى في الاحترام مع الطاعة التي بذلها لله وقدمها له سبحانه…).أ.هـ.
6- ومن الوسائل العظيمة أن يقدر الله حق الله، وأن يعظمه حق التعظيم ومن ذلك أن يتوجه بكليته إلى الله تعالى فلا يرجوا إلا الله، ولا يخاف إلا الله ولا يسأل غير الله، وأن يعلم أن الله مطلع على ما يكن قلبه ويخفيه صدره وأنه جل وعلا يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وأن يعلم العبد أنه يجب عليه تقديم رضا الله تعالى ولو سخط من سخط فإن من أصلح ما بينه وبين الله أصلح الله ما بينه وبين الخلق قال مجاهد: إن العبد إذا أقبل إلى الله بقلبه أقبل الله بقلوب المؤمنين إليهْ .
((والحمد لله رب العالمين))
كتبهاد. محمد ضاوي العصيمي