الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين..وبعد،،
فبادئ ذي بدء فمن المسلمات أنه ما من خير إلا ودعت إليه الشريعة الإسلامية، وما من شر إلا ونهت عنه.
والشريعة لا تمنع من الانتفاع بالعلوم الدنيوية النافعة؛ إذ أن الأصل في الأشياء الإباحة، كما قال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية: 13]، فالانتفاع بالعلوم الحديثة مادام أنها منضبطة بضوابط الشرع، واجتنبت فيها المحاذير الشرعية، فالأصل أنها مباحة، ولذا فإن قاعدة الشريعة هي تحصيل المصالح وتكميلها ودرء المفاسد وتقليلها.
ثم من المعلوم أيضاً أنه ما كان من صنع البشر لا يمكن المقارنة بينه وبين خلق الله تعالى مهما بلغت هذه العلوم من تطور وتيسير على الناس، مع أن الله عزوجل سمى صنع البشر خلقاً، لكنه خلقٌ ناقص، كما قال تعالى: { أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ} [الطور: 35، 36]
فهل فعل المخلوق يسمى خلقاً؟
نعم، ولكن ليس كخلق الله عزو جل، فخلق الله تعالى إيجاد من العدم، بينما خلق المخلوق هو تحويل الموجود من صورة إلى أخرى، ولا يقارن هذا مع الإيجاد من العدم.
ومما يؤكد ما ذكرت أنه حينما حدثت نازلة كورونا، فمع حداثتها وسرعة الأحداث فيها لم يحدث ثمة تناقض بين الفقهاء مع الأطباء في الوصول للحكم الشرعي سواء من خلال العبادات أو المعاملات.
ومن المعلوم أنه قد ارتبط الذكاء الاصطناعي بحياة الكثيرين سواء في الجانب الطبي أو التعليمي أو جانب المعاملات المالية أو غيرها من الجوانب التي تتعلق بحياة الناس وسلوكهم.
الذكاء الاصطناعي والعلوم الطبية
فأما في الجانب الطبي: فنحن بصدد الحديث عن علمين جليلين: علم الدين، وعلم الطب، وكما قال الشافعي t: العلم علمان: علم الدين وعلم الدنيا، أما علم الدين فهو الفقه، أما علم الدنيا فهو علم الطب، وقال رحمه الله: لا تسكنن بلداً لا يكون فيه عالم يفتيك في دينك، وطبيب ينبئك عن أمر بدنك.
وكان الذهبي رحمه الله يقول: لا أعلم بعد علم الفقه علماً أنبل من علم الطب.
والشريعة لا يمكن أن تستغني عن الطب، ومما أذكره هاهنا ما اشتهر عن الإمام الشافعي من كراهة الماء المشمس (الذي يتعرض للشمس مدة طويلة)، وكان أكثر فقهاء عصره ينهون عنه على أساس أنه يورث البرص، فقال: إن كرهه الأطباء كرهناه. فلم يفت كما أفتى غيره، ولكنه أحاله على المختصين وهم الأطباء.
وقد دخل الذكاء الاصطناعي في العلوم الطبية بشكل كبير، وذلك من خلال التشخيص والكشف المبكر، والتدخل العلاجي، وتحسين طرق العلاج، ومراقبة المريض، والوصول للبيانات بشكل أسرع، وتقليل المهام الإدارية، ونحوها مما يتكلفها الطبيب وسهلها الذكاء الاصطناعي.
وتزداد أهمية الأخلاقيات والتركيز عليها في استخدام الذكاء الاصطناعي، وخاصة في المجال الطبي، فربما يعتدى فيه على جسد المريض وتزهق أرواح إن لم يتمسك الطبيب بتلك الأخلاقيات.
كما إنه قد تثور ثمة إشكاليات متعلقة باستخدام الذكاء الصناعي، فمن الأهمية بمكان معرفتها حتى يكون الاستخدام لها على نحو سليم وبالضوابط الشرعية ودون أن يتم التعرض لجسد المريض بما يضره، فضرورة حفظ النفس تأتي في المرتبة الثانية بعد حفظ الدين؛ مما يؤكد على ضرورة حفظ النفوس في هذه الشريعة.
وثمة موضوعات هامة يمكن التعمق فيها ودراستها في هذا الصدد كإذن المريض في استخدام الذكاء الاصطناعي، والمسئولية الطبية حال استخدام الذكاء الاصطناعي؛ وحتى لا يكون جسد المريض محلا للتجارب بل هي بحاجة إلى مزيد بحث.
أبرز القواعد المتعلقة باستخدام الذكاء الاصطناعي:
– القاعدة الأولى: أهمية التكامل بين الفقهاء والمختصين حتى تعطى المسألة حكمها الشرعي المناسب:
فهذه النازلة لمعرفة حكمها الشرعي فلابد من معرفة حقيقتها وتكييفها وتصورها، فالحكم على الشيء فرع عن تصوره، فالأحكام مبناها على التصور الصحيح، والذي هو مقدمة للحكم الشرعي، ولن يتأتى هذا إلا من خلال التكامل بين الفقهاء والمختصين في غير ميدان.
– القاعدة الثانية: عدم نهي الشريعة عن الاستفادة من هذه العلوم والتقنيات الحديثة
بل إن الشريعة تأمر بالاستفادة من هذه العلوم والتقنيات الحديثة وتحث عليها، والأدلة على ذلك متكاثرة:
ومنها قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ } [الملك: 15]
وقوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46) } [الحج: 46]
وغيرها من النصوص التي حثت على الاستفادة من تلك العلوم الحديثة والتوصل بذلك للحكم الشرعي الصحيح.
ومن الخطأ التعجل في إصدار الحكم، وخاصة بالمنع اعتباراً بإحدى الجوانب مع الغفلة عن جوانب أخرى كثيرة قد تشكل مصالح أساسية عند المريض.
فالتحريم- كما هو مقرر لدى أهل العلم- يحسنه كل أحد، وكما قال سفيان رحمه الله: ليس العلم بالشدة، ولكن العلم الرخصة بدليلها، وهذا هو العلم الصحيح، فيعطي الحكم المناسب مدعماً بالدليل، وقاعدة الشريعة أن الأصل في الأشياء الإباحة، والذكاء الاصطناعي هو أحد هذه الأشياء، والتي تعد الإباحة هي الأصل فيها.
- القاعدة الثالثة: تحصيل المصالح وتكثيرها ودرء المفاسد وتقليلها
ومن مصالح ومميزات الذكاء الاصطناعي زيادة الانتشار، فضلا عن تنوع الترجمة والاستفادة منها.
وبالإضافة إلى ذلك، فإن الذكاء الاصطناعي يعمل على الإنجاز وتحصيل المطلوب بأقل وقت ممكن، وسهولة الوصول للمعلومة، وخاصة في الجانب الدعوي والتعليمي، فيكفي أن مقطعا صغيرا لأحد العلماء أو الدعاة يترجم في ذات الوقت للعديد من اللغات الأخرى، ويستفيد منه الآلاف عبر العالم، وبلغات مختلفة، وللعالم أجمع، بعكس الحال في السابق حيث كان يتم الاقتصار على لغة واحدة ومحيط واحد.
وهذه نعمة عظيمة يجب الاستفادة منها- أيما استفادة- وحتى يحصل النفع منها لمصلحة الإسلام والمسلمين، وهذا يستدعي الاعتناء بها لكل من يعمل في الدعوة والتعليم وإرشاد الناس وليعم النفع الجميع.
أما المفاسد فهي محدودة بالنظر للمصالح المترتبة على استخدام الذكاء الاصطناعي كالاستغلال السيء له من قبل من يقومون بالطعن في الدين والشريعة والتشكيك في الثوابت والتنقص منها ونحو ذلك مما يقوم به دعاة الباطل حيث يستخدمون الذكاء الاصطناعي في إغواء الناس وصرفهم عن دينهم؛ مما يوجب الحيطة والحذر لدى كل مسلم، ويولي مزيدا من الاهتمام في محتويات هذه البرامج وما يكون فيها، ويوجب التأني والتدقيق في هذه المحتويات حتى لا تكون هناك معلومات خاطئة أو غير صحيحة يتم توارثها عبر الأجيال.
ويمكن استخدام الذكاء الاصطناعي كذلك في جميع العلوم كالفقه والحديث والحكم على الحديث وكلام أهل العلم فيه، حتى وصل الأمر لتصحيح التلاوة عبر تلك البرامج بدون شيخ، فيصوب القراءة ويصححها
الذكاء الاصطناعي والفتوى:
مما يجب الحذر منه في استخدام الذكاء الاصطناعي في مجال الفتوى، وهو ما خلص إليه مؤتمر الذكاء الاصطناعي في فبراير الماضي للعديد من المؤسسات الأكاديمية وهيئاتها الشرعية؛ حيث خلصت إلى وجوب الاحتياط في قضية الفتوى وعدم إطلاق اليد لبرامج الذكاء الاصطناعي في أن تقوم مقام المفتي، وهذا مقام خطير بلا شك، فالفتوى لا يقاس عليها، ولها اجتهادها وأدواتها، ولها ثمة نظر وتأمل، فقد يعطي المفتي اثنان لهما نفس الصورة والواقع: حكمين مختلفين، وقد ورد هذا في حديث، وإن كان فيه نظر، في قصة الرجلين الذين قبَّلا وهما صائمان، فأمر النبي e الأول بالإفطار، والثاني لم يُفطّره، فهنا أُعطي كل واحد منهما حكماً مختلفاً رغم اتحاد الصورة، ولا يمكن للذكاء الاصطناعي تصور ذلك وتمييزه؛ حيث لا يمكنه معرفة أبعاد الفتوى ولا وضع المستفتي وظروفه ولا الحال التي سأل فيها.
والحاصل أنه لا بأس باستخدام الذكاء الاصطناعي في الفتوى ولكن مع المراجعة، ودون إطلاق يده في ذلك دون الرجوع للمفتي لتأكيد الفتوى أو تعديلها.
الذكاء الاصطناعي ومراعاة القيم والتزام الأخلاقيات:
أيضا مما يجب هاهنا مراعاة القيم والضوابط الشرعية والتزام الأخلاقيات لمستخدم الذكاء الاصطناعي فهو من الأهمية بمكان، فلا يعرف الذكاء الاصطناعي قضية التثبت، ولا تحريم التجسس، واحترام الخصوصيات، ولا يقال بأن حاجة الناس لهذه التقنيات تجعلنا نتجاوز هذه المحاذير بداعي أن الغاية تبرر الوسيلة فهذا قول باطل، ووقوع في المحرم، وتطاول على أحكام الشريعة، وهذه القاعدة أبطلها النبي e كما في حديث: ” إنَّ مِن أفْرَى الفِرَى أنْ يُرِيَ عَيْنَيْهِ ما لَمْ تَرَ” البخاري(7043).
الذكاء الاصطناعي والأبحاث العلمية:
وكذلك يجب عدم إطلاق اليد لاستخدام الذكاء الاصطناعي في مجال الأبحاث العلمية، فثمة فارق بين أن يتولى الذكاء الاصطناعي كتابة البحث من ألفه إلى يائه دون أي جهد من الباحث، وبين من يستفيد منه لتكوين عناصر البحث وخطته ونحو ذلك، فشتان ما بينهما، فالأولى يقال بالمنع فيها لمنافاتها للأمانة العلمية، والثانية لا بأس فيها من الاستعانة بهذه الوسائل كالوصول للمعلومة وتوثيق الآيات وتخريج الأحاديث وترتيب البحث ونحوها.
الذكاء الاصطناعي والتعبدات:
كذلك لا مجال لاستخدام الذكاء الاصطناعي في التعبدات، فباب العبادة لا مجال للذكاء الصناعي فيه، وإلا لو فتحنا هذا الباب لقال البعض بجواز أن يكون هناك إمام بالربوت، وربورت يؤذن في الناس، وثالث يخطب فيهم الجمعة، ورابع يصلي فيهم العيدين وغير ذلك، فهذه الأمور لا مجال للتعبد فيها باستخدام الذكاء الاصطناعي، حتى لا نقع فيما وقع فيه غيرنا من الديانات الأخرى؛ حيث وضع الصينيون إلهاً لبوذا عن طريق الربورت والذكاء الاصطناعي فيشكو إليه الإنسان ويدله على طريق التوبة، وكذلك فعل في بعض آلهة الهندوس وغير ذلك.
ويكفي أنها تنزع الروحانية من القلوب في ظل مادية بغيضة دون استشعار جانب التعبد.
وأخيراً يجب أن نعلم أن هذه ما هي إلا وسائل أمرنا الله بالانتفاع بها والاستفادة من برامجها ويبقى ربنا عزوجل هو الذي علم الإنسان ما لم يعلم.
هذا والحمد لله رب العالمين